Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
ظاهرة التحول في الفكر الكلامي عند الأشاعرة حتى نهاية القرن السابع الهجـــر
الناشر
محمود سعيد حميدة عطية
المؤلف
عطية،محمود سعيد حميدة
الموضوع
الفكر الكلامى الاشاعرة
تاريخ النشر
2007 .
عدد الصفحات
p.243:
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 243

from 243

المستخلص

في حياة الرسول - صلي الله عليه وسلم - لم يكن ثمة صراع عقدي، فالإيمان كان مبنيا آنذاك على التسليم والإتباع معا لنور الوحي على لسان الصدق، وساعد على ذلك انعزال المسلمين في مبدأ الدعوة عن غيرهم من المجتمعات وانشغالهم بنشر الدعوة وتثبيتها من الداخل، الأمر الذي كان له أثر كبير في ترسيخ الإيمان، فضلا عن وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم يبين لهم ما أُشكل عليهم، وكان طبيعيًّا أيضا - في وقت يسعى المسلمون لأن يكونوا صفًّا واحد - أن ينهى الرسول أصحابه عن الجدل والاختلاف إذا رأى منهم نزوعًا إلى المتشابهات أو غيرها؛ إذ يُضر بالدين في نشأته أن تعصف به الأهواء والجدل وتشتت الآراء، كما يضر بالنبتة الحديثة الغرس أن تعصف بها الأنواء، ثم أذن الله لدولة الإسلام أن تتسع، واختلطت بغيرها من الشعوب والأمم على اختلاف لغاتهم ودياناتهم، وبيئاتهم، وأجناسهم، مما كان لهذا أثره العميق في دعوة الإسلام ومحاولة فهمه، فبدأت تثار الأسئلة ويكثر الجدل إما بدافع إثارة الشبه والفتن عنادا أو بدافع الاستيضاح والبيان استرشادا، ومن هنا دب الاختلاف وكثرت الفرق والأحزاب، وأضحى لكل فرقة بين العوام أشياع وأتباع، وتحول المسلمون بذلك من مرحلة التسليم والتصديق إلى مرحلة التفكير والجدل في مسائل العقائد لاسيما وقد ضعفت روح التهيب التي كانت في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم( ).
وإن من يتأمل الفرق الكلامية من بدء نشأتها، يمكن له أن يلحظ لونا من التطور أيضا في تسمياتها، الأمر الذي يظهر من خلال التحول من الفعل والممارسة إلى النظر والتقعيد، أو من التاريخ إلى التأريخ، أو من الموضوعات والمسائل إلى الأصول؛ ولكي نفهم ذلك حق فهمه لننظر في تسميات الفرق. ففي القرن الأول الهجري نجد أن فرقتين كالخوارج والشيعة قد نشآتا في إطار سياق تاريخي أو نتيجة لموقف عملي مباشر، خرج فيه الخوارج على سيدنا على يوم التحكيم باسم الحرص على أحكام الله والتشدد فيها، ومن ثم فقد أطلق عليها اسما يعبر عن ذلك الموقف، وتأسس لديهم أيضا أن مرتكب الكبيرة محكوم عليه بالكفر المناقض للإيمان، ومن ثم فلا يصلى عليه إذا مات من غير توبة ولا يدفن في مدافن المسلمين ولا يورث أو يرث ولا يزوج...وغيرها من أحكام غير المسلمين في الدنيا والآخرة، وانتهوا إلى قتل الإمام على - رضي الله عنه - بعد أن كفروه مع كل من حكم الرجال في كتاب الله، ولا شك أن قتله من أعظم الكبائر.
وكذلك فالذين شايعوا عليا وتعصبوا لأحقيته في الإمامة وقالوا له نحن أعداء لمن عاديت وأولياء لما واليت سموا شيعة، والحق أن الاعتزال ليس بمنجاة من ذلك إذ هو الآخر فعلُ سواء أكان اعتزالا للفتن أم للحسن البصري، ثم تحولت التسميات مع القرن الثالث والرابع الهجريين، وصارت الفرق تنسب إلى الأشخاص حاملة أسمائهم بعد أن كانت تنسب إلى الفعل والفكر، فهذا الأشعري وذاك الماتريدي وكأنهما متقابلان رغم التقارب الزمني تواليا، وهذا ما يعبر أيضا عن التطور الذي أصاب علم الكلام من الفعل نتيجة الإيمان بقضايا إلى الانفعال بالأشخاص ومدى التأثير في غيرهم أو التأصيل للأفكار، ولعل ذلك يندرج تحت الطبيعة الإنسانية إذ إن الناس غالبا ما يخوضون الممارسة أولا ثم يأتي بعد ذلك دور التنظير والتقعيد.
ولقد لاحظ أحد الباحثين أن ثمة تحولا في مسار علم الكلام - بدءا من القرن الخامس الهجري - من الواقعية حيث المنهج والقضايا النابعة من أرض الواقع إلى التجريدية العقلية المنطقية البعيدة عن الواقع، بحيث يمكن القول بأن الصلة بين الفكر الكلامي والواقع تكاد تفقد بعد القرن الرابع في إطار من المجادلات النظرية في المسائل القديمة، واحتجاجات تتعلق بتحديات ماضية وميل إلى التأليف والترتيب للآراء والمقولات السابقة، ويعزو سبب ذلك التحول إلى آثار من ترجمة الفلسفة اليونانية وانشغال المسلمين بها( ).
ولم يكن تطور علم الكلام في تسميات فرقه أو انتقالهم من العمل إلى النظر فحسب، بل إن موضوعاته قد تطورت هي الأخرى، فما من شك أن ما سبق من قتال بين المسلمين في صفين والجمل قد كان من آثار الاختلاف حول موضوع الإمامة، وما سالت الدماء وكثر القتل والختل إلا من جراء إثباتها، ولا شك أن ذلك كان أعظم خلاف بين الأمة - حسبما يقول الشهرستاني في كتاب الملل: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان»( ) وما من شك أن القتال بين المسلمين قد بدأ يثير التساؤلات أيضا حول مصير الفريقين من المسلمين في صفين والجمل، وما حدث بينهما على ما لهما من مكانة عظيمة في نفوس المسلمين، فأيهما على الحق وأيهما على الباطل؟ ولقد بعث القتل سواء من الحاكم أو ممن يسعى إليه قضية الكبائر وحكم أصحابها في الدنيا والآخرة.
وبالرغم من أن مسألة الإمامة وأحقيتها مثلت الغطاء السياسي الظاهر الذي دارت من حوله الأحداث فإن انحسامها العملي بتولي معاوية وتنازل الحسن له حقنا لدماء المسلمين قد حَوَّل القضية من العمل إلى النظر، أو من كونها قضية فقهية إلى التباسها بالظرف التاريخي والسياسي.
فإذا كانت الإمامة قد مثلت أعظم خلاف بين المسلمين من جهة، والبذرة الأولى من بواكير علم الكلام من جهة أخرى بيد أنها عادت إلى حجمها الطبيعي وتراجعت لتكون في آخر كتب مؤرخي الفرق من أهل السنة، وذلك بتولية معاوية واستتباب الأمر له، ورغم أنها أول خلاف سالت فيه دماء المسلمين فقد اعتمد في ترتيبها على أصلها الفقهي باعتبارها قضية مصلحية، ولكننا في الوقت نفسه سنجد أن للشيعة إجابة أخرى للسائل عن مسألة الإمامة وهل هي من القضايا الكلامية الأصولية أم الفقهية؟( )، إذ إننا نجدها لم تتوار عند الشيعة بل أخذت شكلا مغاليا ومتطرفا كما هو الحال عند الشيعة الإمامية، وساعد على نموها في هذا التيار وانتشاره ما تعرض له أهل بيت النبوة من إحن ومحن انتهت بقتل سبطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وظلت حية عند الشيعة إلى يوم الناس هذا رغم مرور أربعة عشر قرنًا من الزمان على وفاة على - رضي الله عنه - وبذلك تتحول الإمامة من كونها قضية مصلحية تاريخية عند أهل السنة إلى قضية عصرية عند الشيعة، ومن مسألة فقهية فرعية إلى مسألة عقدية أصلية.
وإذا كانت قضية الإمامة قد توارت نوعا ما فإن موضوعا آخر من موضوعات الكلام قد ظهر واحتل مكانة كبيرة في مثل تلك الأجواء الملتهبة التي تغلب فيها الفتن تكثر الاختلافات والآراء ويلتبس فيها الحق بالباطل، واحتدم الخلاف بين طوائف المسلمين في الحكم على مرتكب الكبيرة ومدى مسئولية الإنسان عن أفعاله وعلاقتها بالقضاء والقدر وقد كان ذلك من أهم الموضوعات التي برزت على السطح، وحلت محل الإمامة( ).
وظهرت في إثر هذا الموضوع ردود أفعال مختلفة من تيارات متعددة ومتشددة أحيانا، وبدا ذلك من افتراقهم في موقفهم من الحكم على مرتكب الكبيرة، فطائفة تكفر بالذنوب، وأخري لا يضر مع إيمانها معصية وهكذا تدافعت الردود وبات صراعا يمكننا القول فيه «بأن عقلانية المعتزلة المفرطة استدعت ظهور الأشاعرة، وغلو الخوارج استدعى تفريط المرجئة، وإسراف الجبرية في نفي القدرة الإنسانية استدعى غلوا مقابلا عند القدرية، وتجسيم المشبهة استدعى تعطيل الجهمية، وغلو الشيعة في أهل البيت استدعى ظهور النواصب»( ).
ثم انتقل الحكم إلى ارتكاب الذنوب عامة ومدى مسئولية الإنسان عنها، وما يتعلق بارتكابها من جبر واختيار، وقضية العمل وهل هو ركن للإيمان أم شرط؟ ومدى استغلال الحكومات الزمنية لذلك، ولا شك أن هذه الأعمال لها علاقة بالإيمان زيادة ونقصا ومن هنا نشأت قضية الإيمان وعلاقتها بالعمل. وبدأ التأسيس النظري لمثل هذه الأفكار في غيبة العمل ومعروف أنه كلما غاب العمل ازداد معه التبرير النظري.
ومن البين أن العامل السياسي كان له أثره في نشأة تلك الفرق الدينية التي خرجت إلى حيز التنفيذ العملي(الخوارج والشيعة والمعتزلة)، بحيث لا يمكن فصل ما بين الدين والسياسة من تداخل، أما الفرق المتأخرة كالأشاعرة والماتريدية، فقد ظهرت في وقت تحددت فيه مسائل علم الكلام، ولم تكن السياسة - نظرا وتطبيقا - إلا شيئا ثانويا في مذهبهم( ).
وظلت قضية الحكم على مرتكب الكبيرة حية إلى أن أثيرت في مجلس الحسن البصري، تعددت حولها الآراء، إلى أن جاء واصل ليدلي هو الآخر بأصل جديد وهو كونه في منزلة بين المنزلتين، وكذلك الحكم على أصحاب صفين والجمل فضلا عما أثير من مناظرات حول مشكلات لاهوتية أخرى كان وراءها فلول المنهزمين من أصحاب الديانات السابقة.
ثم تحولت موضوعات علم الكلام هي الأخرى من الموضوعات العملية إلى الموضوعات النظرية أو الجدلية، وذلك بالبحث في الذات الإلهية وصفاتها علاقة الذات بالصفات..ومحاولة إثباتها بالأدلة العقلية ضد المناوئين من أصحاب الملل والنحل الأخرى( )، وما يتعلق بها من موضوعات أخرى مثل كلام الله ومشكلة خلق القرآن، وصفات الله التي أخبر بها عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله من أن له يدا أو عينا...ورؤية الله تعالى في الآخرة وغيرها من الموضوعات التي مثلت أصولا عند الفرق الكلامية، وهذا يعني أن علم الكلام - حسب التطور في موضوعاته - نشأ وفقا لحاجة داخلية أولا ثم أسهمت العوامل الخارجية في تطوره وانتقاله إلى موضوعات جديدة، وذلك يعني أن ثمة تحولا في الغاية من علم الكلام حيث بدأ من التصدي للقضايا الداخلية وموضوعات المتعلقة بالأمة وإمامها، إلى موضوعات متعلقة بالآخر المخالف في العقيدة، وعند ذلك بدأ مفهوم العلم يتحدد وفقا للهدف منه، وهو الدفاع عن العقيدة، وبذلك يتحول علم الكلام من الجانب العملي(السياسي) إلى الجانب النظري المعرفي أو (الميتافيزيقي) ليتناول موضوعات قد تعلو على الواقع وتتشابه إلى حد كبير بالموضوعات الفلسفية، ناهيك عن الأثر الفلسفي الذي تركته الفلسفة اليونانية في علم الكلام، وامتزاج علم الكلام بالفلسفة في مرحلة من مراحله.